لتجربة قراءة أفضل تفضل بزيارة المقالة على زد

"الكتب تهيئ للإنسان الحياة التي يهواها" خان الخليلي
في العام الذي بدأت فيه كتابة أولى قصصي بناءً على حبي لرواية نجيب محفوظ وحلمي أن أراه وأن أقول له أنني أحببت الكتابة بسببه، توفي نجيب محفوظ فبينما أبدأ أن في يونيو أولى قصصي يموت نجيب في (30) أغسطس من ذلك العام (2006م) لم يكن نجيب محفوظ روائيًا عاديًّا، لقد كان كاتبًا وفيلسوفًا، تنطلق فلسفته من ألسنة أبطاله الذين ينطقون بما يمليه عليهم، وكذلك كان نجيب محفوظ مؤرخًا.ففي كتابته تقرأ الفلسفة والتاريخ، تغوص في داخل النفس البشرية وتشاهد تعقيداتها، كما أنه يسوق لك الحكاية الاجتماعية بشكل دقيق، يصف كيفما يصف ولكنك تظل مشدوهًا إلى كل ما يقال لا تريد أن تفلت خيطًا واحدًا مما كتبه أو يكتبه، تحار فيما يقدم إليك. في عالم نجيب محفوظ وبناءً على ما صرح به، لا يوجد بطل إنما الموجود دائمًا شخصيات فحسب، شخصيات بشرية بكل فسادها وجمالها، تكبرها وتجبرها.ففي الثلاثية حيث السيد أحمد عبد الجواد الذي يسوق مبررًا لكل ما يقوم بفعله، يبرر أفعاله بمبررات حسنة، فهو الذي يصوم ويصلي وكذلك يشرب الخمر ويحضر مجالس اللهو، فهو في البيت الرجل الشديد الذي لا يتهاون في أتفه الأشياء، وفي مجالس اللهو يضرب بيديه الدف، فلا تعرف هل تحبه أم تكرهه، وحينما تمضي بك الحكاية إلى أخرها ستجد نفسك تتعاطف معه، ولكن في النهاية ستقف متسائلًا: من كان البطل؟ هل هو السيد أحمد عبد الجواد بجبروته، أم أمينة عمود البيت وسيدته.في ثلاثية القاهرة، تشعر أنك هناك بالفعل في تلك اللحظة يعبق أنفك بروائح البيت الطيب وتخاف من غارات العدو فوق رأسك.فائدة أن تقرأ لمحفوظ
في سنتي الأولى بالجامعة كانت زميلتي في السكن في كلية الآداب تدرس رواية محفوظ "زقاق المدق".لم تكن تحب تلك المادة حينها فأخذت أنا منها الكتب، وكنت قد قرأت الرواية وشاهدت الفيلم، لقد كنت أحب تلك الرواية لأنني كنت أرى أن بطلتها طموحة، على الرغم من أن طموحها كان مهلكًا، ولكنه الطموح حينما يجتمع مع الجهل يشكل ثنائيًّا مرعبًا قادرًا على إهلاك الشخص، حينها شرحت لها تلك المادة، ولقد كانت تخبرني أنني سأصبح ذات شأن لاجتهادي، لكنها لم تكن تعرف أن ذاك الاجتهاد حصري لنجيب محفوظ فقط ولا أحد غيره، كنت أخبرهم في جامعة الأزهر حيث أدرس لو أننا ندرس روايات نجيب محفوظ لصرت معيدة في تلك الجامعة لكن صديقتي كانت تضحك مني، فمن يدخل محفوظ جامعة الأزهر؟!أولاد حارتنا، ما ذلك الذي أقرأه
"و من عجب أن أهل حارتنا يضحكون، علام يضحكون؟ إنهم يهتفون للمنتصر أيًّا كان المنتصر، ويهللون للقوي أيًّا كان القوي، ويسجدون أمام النبابيت يداوون بذلك كله الرعب الكامن في أعماقهم"قبل حادثة الجامعة وأثناء فترة الدراسة بالثانوية، جاء أخي إليّ بالكثير من الكتب، بين الكتب كانت هناك نسخة قديمة من رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ وعلى الرغم من أن تلك النسخة كانت قديمة إلا أنها مازلت تحتفظ برونقها، يومها قلت كيف يتخلى أحد عن رواية لنجيب محفوظ، ولكن حينما قرأتها قلت ربما لم يفهمها هذا الشخص وقرر كما قرر الجميع أنها رواية تعج بالمعصية، أو كما قال أستاذ عنه (لم يعطوا لنجيب محفوظ الرواية إلا لأنه مثل الله في روايته).في الحقيقة حينما تبدأ في قراءة الرواية، الجبلاوي وأبناؤه أدهم وإدريس، أدهم الذي يتسبب في طرد إبليس من قصر الجبلاوي، ثم بعد ذلك تظن أنها إعادة تقديم لقصة خلق آدم، ولكن في الحقيقة أن الإسقاطات ليست دائمًا صحيحة، وأن الرواية لا تؤخذ من ذلك الجانب أبدًا، وأنك حينما تقرأ الأدب فحذار من أن تسقطه على الواقع، لأن للقصة خصوصية تفرضها على نفسها، لا يصح أن تقيسها بالواقع أو تسقطها عليه. لذلك يظل ذكر نجيب حرجًا قليلًا لدى المتدينين، ولكن يبقى هو لي وللجميع رمزًا يحتذى به، لقد كان كاتبًا على الرغم من وظيفته، وقارئًا على الرغم من انشغاله، لم يكن نجيب يسعى إلى الشهرة والمال، بل كان يسعى للكتابة وحسب.يقول نجيب محفوظ :"منذ الثامنة إلى الثانية كنت أعمل في الوظيفة، ومنذ الرابعة إلى السابعة أكتب، ومنذ السابعة إلى العاشرة أقرأ"فخلف كل ذلك التراث الأدبي العظيم، كان هناك قراءة وكتابة بلا انقطاع. "إن خرجنا سالمين فهي الرحمة وإن خرجنا هالكين فهو العدل" أصداء السيرة الذاتيةلم يكن نجيب محفوظ يحب الزحام أو الأضواء والحفلات لو كان بيننا الآن لما ظننت أنه سيقوم بعمل صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى حفلات توقيع، لم يسع خلف الشهرة أو المال، ولكن إذا أتت الشهرة والمال فلا بئس، سيقول أحدهم لعل الحياة تعطي من لا يريد ما يريد، ولكني أقول أن المجتهد والمبدع سينال التقدير، حتى لو لم يسع وراءه، وها نحن هنا عامًا بعد عام، ونجيب محفوظ في وجداننا سواءٌ كنت تحب أن تقرأ له أو لا تحب، فلن يمكنك أن تنكر أنه نموذج لن يتكرر، وأن مشروعه سيظل عمودًا من أعمدة الأدب المصري.